سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: تخويفًا لهذه الأمة: {ولقد أرسلنا إلى أمم} مضت {من قبلك} رسلاً فأنذروهم، فكذبوا وكفروا {فأخذناهم بالبأساء} أي: الشدة، كالقحط والجوع، {والضراء} كالأمراض والموت والفتن، تخويفًا لهم {لعلهم يتضرعون} أي: يتذللون ويتوبون من ذنوبهم، فلم يفعلوا، {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي: هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد، {ولكن قست قلوبهم} أي: صلُبت ولم تلن، {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}؛ فصرَفهم عن الضرع، أي: لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
{فلما نسوا ما ذكروا به} أي: تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة، أو مكرًا بهم، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مُكر بالقوم ورب الكعبة» {حتى إذا فرحوا} أي: أعجبوا {بما أوتوا} من النعم، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، {أخذناهم بغتة} أي: فجأة {فإذا هم مبسلون} مُتحيرون آيسون من كل خير، {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أي: قطع آخرهم، ولم يبق منهم آحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، {والحمد لله رب العالمين} على إهلاكهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة، يحق أن يحمد عليها؛ من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: المقصود من إظهار النقم الظاهرة؛ ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنة في أضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل. «أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي». فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا. فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها: ما يكون أدبًا وكفارة، ومنها: زيادة وترقية، ومنها: ما يكون عقوبة وطردًا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب، وإن صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا. أعاذنا الله من موارد النقم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم أيضًا: {أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} أي: أصمَّكم وأعماكم، {وختم على قلوبكم}؛ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمُكم، {مَن إله غير الله يأتيكم به} أي: بذلك المأخوذ. {انظر كيف نُصرف الآيات} أي: نُكررها على جهات مختلفة، كتصريف الرياح، تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنيبة والتذكير بأحوال المتقدمين، {ثم هم يصدفون} أي: يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها، و{ثُم}: لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
و{قل} لهم أيضًا: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة} من غير مقدمة {أو جهرة} بتقديمها، فالبغتة: ما لم يتقدم لهم به شعور، والجهرة: ما قدمت لهم مخايلة، وقيل: بغتة بالليل، وجهرة بالنهار، {هل يُهلك} أي: ما يُهلك به هلاك سخط وتعذيب، {إلا القوم الظالمون} بالكفر والمعاصي.
الإشارة: إنما خلق الأسماع والأبصار، لسماع الوعظ والتذكار، ولنظرة التفكر والاعتبار، فمن صرفهما في ذلك فقد شكر نعمتهما، ومن صرفهما في غير ذلك فقد كفر نعمتهما، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة، وكذلك نور العقل، ما جعله الله في العبد إلا ليعرفه به، ويعرف دلائل توحيده، ويتبصرّ به في أمره. فإذا صرفه في تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته، فيوشك أيضًا أن يؤخذ منه.
وإذا أنعم الله عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله؛ فليكن على حذر من آخذ ذلك منه أيضًا، فلا يأمن مكر الله، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد الله، يُقلبها كيف شاء، فإن أخذها لن يقدر على ردها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، والعذاب الذي يأتي بغتة، هو السلب بغتة، أي: فقد القلب في مرة واحدة، والذي يأتي جهرة هو فقده شيئًا فشيئًا، وسبب هذا الهلاك: هو ظلم العبد لنفسه، إما بسوء أدب مع الله، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} للمؤمنين بالنعيم المقيم، {ومنذرين} للكفار بالعذاب الأليم، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم، {فمن آمن} بهم، {وأصلح} ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم، {فلا خوف عليهم} من العذاب، {ولا هم يحزنون} لفوات الثواب، {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} أي: يلحقهم، جعل العذاب ماسًّا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن توصيفه. وذلك المس {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
الإشارة: ما من زمان إلا ويبعث الله أولياء عارفين، مبشرين لم أطاعهم واتبعهم بطلعة أنوار الحضرة على أسرارهم، ومنذرين لمن خالفهم بظهور ظلمة الكون على قلوبهم وانطباع الأكوان في أسرارهم، فمن آمن بهم وصحبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بدليل قوله: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يُونس: 62]، ومن كذب بهم وبما يظهر على أيديهم من أسرار المعارف يمسهم عذاب القطيعة، بما كانوا يفسقون، أي: بخروجهم على طاعتهم والإذعان إليهم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11